البقاء في الأسر.. أنواع أخرى من الإساءة

بينما يبدو الأمر واضحًا للآخرين يبقى لهم لغزًا أنك لا تراه مثلهم، لست طفلًا صغيرًا لا يمكنه التمييز، ولست عاجزًا عن التعبير، ومع ذلك تبقى هنا تعاني.

هناك ثقلًا يدفنك، وشبحًا يغذيه خوف يبقيك في أسر لطالما أنكرته، ربما لو عايش الآخرون ما تعانيه لفهموا. لكن ما الذي تفهمه أنت وتنكره؟

منذ أكثر من ثمانية أعوام أجرى باحثون تجربة على فئران رضيعة عرضوها لعوامل مؤذية كرفع درجة الحرارة بالتوازي مع ربط هذه العوامل بروائح بعينها، كان الباحثون يعلمون أن الفئران الصغيرة عادة ما تستجيب للروائح خلال فترة الرضاعة، بما يعزز الروابط مع الأم.

ووجد الباحثون أن هذه الفئران تجتذب إلى أية روائح حتى التي ترتبط بعامل يؤذيهم في هذه الفترة مثل الحرارة العالية، عوضًا عن تجنبها كما تفعل الفئران الصغيرة.

ويفسر الباحثون في ورقتهم البحثية التي نشرت في دورية Nature Neuroscience بأن الفئران الرضيعة قد استبدلت شعورها بالخوف بالتعلق بمقدم الرعاية كنوع من الحيل الدفاعية لضمان البقاء، ويقول أحد الخبراء “لضمان البقاء يلجأ للتعلق بمقدم الرعاية دون النظر إلى مستواها”.

وبينما يغيب مفهوم الإساءة في رحم افتراض الحب والرعاية فيمن هم أهل للثقة، زوج، حبيبة، أب، أو معلمة، يُسلب منك على مهل حقك في الشعور بالإساءة أو الاستغلال، تفقد الحد الأدنى من إنسانيتك؛ أن تشعر بأنك لا تستحق هذا الألم.

ربما تعتقد أنك بمأمن طالما لا تتعرض لعنف جسدي، خصوصًا في ثقافة لا ترى في الضرب إساءة اللهم إذا مارسه شخصًا خارج نطاق العائلة والمدرسة، لكن الشهادة التالية ربما تشرح لك نوعًا آخر من الإساءة.

“كان زوجي السابق يستخدم الكلمات بالطريقة التي يستخدم بها السلاح؛ مثل شظايا الزجاج، يُقَطِّع بها حياتي ويستنزفها، فلم يتبقى لي شيئًا تقريبًا، لم أكن أشعر بأنني أتعرض للإساءة لأنه لم يكن يضربني عادة (..) كنت قد بدأت في تصديق أكاذبيه الرهيبة بأنني بلا قيمة، غبية، قبيحة، ولا يمكن لأحدٍ أن يريدني على الإطلاق”.

ثمة درسًا يعيه كل مُسيء، ولا تدركه الضحية على الدوام، وهو أنه بجانب ممارسة التسلط من أجل الحفاظ على الطرف الآخر في خانة الضحية، هو غياب الثقة وحضور الشك في أن ما تتعرض له الضحية هو إساءة بالفعل.

وفي الوقت الذي قد تعتبر فيه أن ما يفعله المسيء هو مجرد تصرف عارض، يكرر هو سلوكه من أجل السيطرة والحفاظ على نفوذه عليك، إما بالإعتداء الجسدي الذي لا يعني الضرب فحسب وإنما إشعارك بالخطر على سلامتك على الدوام، أو التشكيك في نفسك وحكمك على الأمور، وأحيانًا عزلك عن مجتمعك الطبيعي، لجعلك أكثر اعتمادية عليه، وضمان عدم لجوئك لطلب المساعدة.

والمسيء يخطط على الدوام لمحاصرتك بكل الأشكال نفسيًا وماديًا لضمان بقائك تحت نفوذه، والسيطرة عليك ماليًا فلا يمكنك توفير احتياجات نفسك أو الاستقلال ماديًا.

وقد تتخذ الإساءة صورًا جنسية لا تنحصر في استغلال الأطفال أو ممارسة الجنس مع نساء على غير رغبتهم تحت تأثير نفوذ ما فحسب، وإنما تشمل إشعار الطرف الآخر بأنه معيب أو غير كافي، أو غير مفيد في العموم إلا كغرض جنسي.

هناك الكثير من صور الإساءة، تعتمد على النمط السلوكي ذاته الذي يمارسه المسيء أو المستغل، وذات نقاط الضعف في الضحية، لكن هناك صورًا أشد وطئة لعل أبرزها التنمر وهو تصرفات مؤذية عمدية من قبل فرد أو جماعة على قدر من النفوذ يصعب معها دفاع المتعرض للتنمر عن نفسه أمام محاولات التقليل من قيمته.

لا يهم ما الذي يحاصرك؛ ربما يتملكك الخوف، أو تشعر أن بقائك مرهون ببقاء أحدهم، أو تستمد قيمتك من آخرين، أو تفترض فيهم مصدرًا آمنًا للرعاية والحب غير المشروط مهما كان سلوكهم نحوك، هناك بوصلة واحدة، زاوية خروج في حلقة ظننتها محكمة: أنت لا تستحق الإساءة مهما كانت صورها.

المصادر:

عن مصطفى علي أبو مسلم

مصطفى علي أبو مسلم
صحفي ومدير إحصاءات واستراتيجيات الجمهور بمجموعة سبرنجر نيتشر