من صندوقٍ لآخر

شعور خانق بالذنب غير المفهوم مع غضب بركاني، تغرق معه في أفكار متناقضة تجذبك من كل ناحية عدا فوق. تختلط عليك الأمور. تحاول التقاط أنفاسك دون جدوى، حتى يهيأ إليك أنك في الواقع لا تستحق النجاة.

يقولون في الابتزاز بأنواعه إنه يشبه الصندوق الذي تُحبس فيه دون أن تدري، فتظن أن الأمر عادي تمامًا، علاقة بين شخصين –أو شيئين. بمرور الوقت، ينكمش الصندوق ويطبق عليك كلما حاولت التحرك داخله، فتبدأ في تقليص ذاتك لتتناسب معه وتتأقلم على الوضع الذي أنت فيه، فيظل ينكمش عليك أكثر وأكثر، وتظل تسبح في فلك شعور بالذنب لاعتقادك أنك أنت من يتسبب في ذلك، لا مالك الصندوق.

أقول عن الابتزاز إنه يأتيك كنصاب محترف، يدخل بيتك كزائر ودود يتغزل في ذوقك الرفيع، ثم يكرر الزيارة حتى تألفه وتأمنه على نفسك وأهل بيتك، ويصبح فردًا من العائلة.. لا، بل يصبح كقطعة ثياب تظهر أمامك كلما احترت فيما سترتدي اليوم، فتختارها كل مرة، أو تظن أنك أنت من يختارها. وبعد فترة من الزمن –ورغم مللك منها أو ضيقك من عدم نظافتها- تجد نفسك غير قادر على الاستغناء عنها، أو ربما أصبحت تألفها حتى أنك لا تفكر أصلًا في إمكانية الاستغناء.. تتشبث بها بعد أن كانت هي التي تتشبث بك، تتعلق بها، وتتمحور حياتك حولها.. يسعدك تنظيفها ويغضبك تلفها.. تصبح جزءًا من كيانك حتى لا ترى حبل الوصل من شدة توحّدك معها، ولا تعرف لنفسك شكلًا أو حياةً من دونها.

فمن أنت حقًا وأين ذاتك؟ من كنت قبل ظهور هذا الضيف ومن تكون بعيدًا عنه؟

لا أدري.

لكني أعرف أنك ظللت لفترات طويلة ينتابك شعور لا تعرف مصدره بالضبط بأن شيئًا ما غير طبيعي.. ولقلة الأدلة الواضحة وتشتيت ذهنك وعدم قدرتك على تمييز هذا الجزء الفاسد مما تظنه كيانك، تكذب نفسك. كطفل يبدأ في الإدراك للتو، يصعب عليه تصديق أنه لم يعد طفلًا، ووجب عليه أن يثق في حكمه على الأمور وعلى نفسه.. نفسك تلك التي اعتدت أن تتجنى عليها وتقلل من شأنها، وتخرسها لتبقى ساكنة داخل الصندوق الذي وُضعَت فيه.

وسرعان ما تتبدل الصناديق وأنت لا تدري. تلوم نفسك لسماحها بالوضع الأول، توجه غضبك نحوها، تراها ضعيفة.. غبية.. نعم، هي لا تستحق هذا النوع من الإيذاء، لكن ما البديل؟ يمنعك غضبك من تفهّمها، فتدخل دون أن تدري في صندوق أكبر، له غطاء ليس محكم، فتظن أن هذا هو ما تستحقه. تظن أن الوضع قد تغير، تظن أنك تدخله بإرادتك، ويمكنك الخروج منه وقت شئت.. لكنه يظل صندوقًا في النهاية وله مالك، وتظل تسبح في فلك شيء آخر غير ذاتك الحقيقية التي لم تقابلها بعد.

فهل إذا ما خرجت من الصندوق وخلعت ثيابك المبتزة هذه ستجد شيئًا تحتها من لحم ودم، وروح؟

هل ستضيع وتهلك وتجد نفسك مجردًا من كل شيء يجعلك من تكون الآن؟ هل ستصبح أكثر عدوانية وكراهية، ووحدة؟

أم ستكتشف ذاتًا جديدة لم تعرف لها وجودًا من قبل، ربما تكون أكثر حلمًا وتعاطفًا؟ ذاتًا ربما.. تحبها أكثر..؟

من يدري؟

فاخلعها الآن.. وانطلق.

عن سُفانة الباهي

سُفانة الباهي