يدفعه أخوه من أعلى برج القاهرة، تلتقطه أمه برفق ثم تسأله: «اسم حضرتك إيه يا أستاذ ممدوح؟»، يذكِّره سؤالها بممرضة غبية لا يعرف اسمها، يجذب كفَّها كغريق، يكاد يعصرها، يبحث بأنامله الواهنة عن لحم أمه في تلك الكف التي طالما غاص فيها باكيًا ولاثمًا، لكنه لا يجد سوى عروق وعظام.
أنا فين؟
تأتيه إجابة غير واضحة مختومة بحمد الله، فيحمد الله، يخرج صوت خشن من مكان ما «قدر ولطف يا أخويا»، ينادي صاحب الصوت باسمه، يخرج منه حرف واحد «شششششششش»، تربت كفٌّ ناشفة على كتفه، أين كف أمه؟
من فوق مئذنة جامع ابن طولون يتحسس جدرانها هابطًا السلالم الحلزونية، يمشي بمحاذاتها، يصرخ كلما جذبه أخوه من يده إلى أعلى أو أسفل، ينادي أمه التي لم تصعد معهما إلى المئذنة، كلما رأي أخوه شريف من سور السلالم القصير، ينظر إلى كل درجة هابطًا متصورًا تعثره فيها وسقوطه على ذقنه وتهشم أسنانه، لقد سقط أكثر من 100 مرة ذلك اليوم، بنفس الطريقة، وعلى كل درجة.
يرى أمه جالسة قرب المحراب في ذلك الجامع المهجور، فيجري عليها باكيًا، يدفن نفسه في حضنها، تضحك، لم تعُد تتحسس رأسه أو جسده، فقد صارت تعرف أن مصابه في خياله، تدندن له في أذنه، تهدهده وهو ابن العشر سنوات، فتطيب جروح خياله وينام كرضيع.
يروي لطبيبه أنه ذات ليلة رأى في آخر الطريق كلبًا يعدو خلف قطة، فجأة وقفت القطة وقوَّست ظهرها، ورفعت مخالبها في وجهه، وقف مبهوتًا — الكلب طبعًا وكذلك هو — ثم بحركة خطافية ضربته ضربةً تَراجع على أثرها خطوات، وظل ينبح والقطة لا تزال على موقفها. ربما ليتفادى الكلب الإحراج — هو لا يعلم إن كان لديها ذلك الشعور كذلك قال لطبيبه مفسرًا — راح يبحث عن فريسة أخرى يأسرها الخوف.
في تلك الليلة عضَّه الكلب 700 مرة في كل قفزة ظل يقفزها وهو عائد ركضًا إلى منزله. أقسم أنه لم يكن يشعر بأنياب الكلب تنهش لحمه فحسب، بل كان يشعر بوخز الـ 21 حقنة الشهيرة في بطنه كما يشاع.
خاب سعي أمه وأخيه وطبيبه النفسي في أن يخبروه أنه يعيش حياة واحدة، لن يفيده أن يقيده فيها الخوف، غير أن تلك لم تكن الحقيقة، فهو يعيش ألف حياة في كل موقف، كلها مؤلمة.
ظل يحسب خطواته طوال عمره، متجنبًا تلك الحيوات، يكز على أسنانه، يتشبث بذراع أحدهم، يسير بجوار الجدار، يحبس أنفاسه، يغير الطريق، ينتظر طويلًا، ينظر يمينًا ويسارًا قبل عبوره، يتنفس الصعداء عندما يصل إلى المنزل، حُضن أمه، فِراشه المرتب.
أين ذلك الحضن الآن ليوقظه من تلك الحياة المؤلمة؟ تقول له إنه لم يفشل في تجنبها! وإن جروحه محض خيال، ومع ذلك تضمدها! يناديها …
أمي.
صمت مطبق، اليد الخشنة تعود من جديد … يعجز عن دفعها، فيتشبث بها ويبكي!
السيدة زينب – 15 أبريل 2014
لتحميل المجموعة القصصية:
قصص أخرى من قصص البقاء في الأسر:
الشبكات الإجتماعية